تاريخ غزة في نهاية العصر العثماني من خلال شواهد القبور دراسة وتعليق بقلم: الباحث م. غسان محمود الوحيدي - هنا الترابين

عاجل

مدونة تهتم بتراث وعادات وتقاليد قبيلة الترابين

الخميس، 4 يناير 2018

تاريخ غزة في نهاية العصر العثماني من خلال شواهد القبور دراسة وتعليق بقلم: الباحث م. غسان محمود الوحيدي

تاريخ غزة 
في نهاية العصر العثماني من خلال شواهد القبور 
(1230-1336هـ/ 1814-1917م)
لمؤلفه: الدكتور فرج الحسيني
دراسة وتعليق بقلم: الباحث م. غسان محمود الوحيدي  __ غزة هاشم

تتنوع الدراسات التي تتناول المدن التاريخية وتتلون، لتشكل فيما بينها محصولا معرفيا عن تلك المدن فتزيد رصيدها وفرة وثراء، تتيه به مدن على مدن، وغزة واحدة من تلك المدن التي تنوعت حولها الدراسات وتعددت، فلم يشبع الباحثون ولا الدارسون من الكتابة عنها، كيف لا وهي التي دحرت الغزاة وردتهم مهزومين مقهورين يجرون أذيال الخيبة، وحينا كانت تنال منها الخطوب، وكانت كلما أصابتها الحروب بنيرانها، لا تستسلم للدمار، فتنهض كطائر الفينيق.   نعم .. كثيرة هي الدراسات التي تناولتها من عدة نواحي منها: التاريخية والجغرافية والاجتماعية والسياسية والتراثية وغيرها، والناس فيما يعشقون مذاهب، وهي تستحق الكثير منا.

غزة الفاتنة التي قال فيها الشاعر:

سر بي إلى غزة الفيحاء فإن بها ...  رياضا تحاكي جنة الخلد

وغزة المجاهدة التي قال فيها المرحوم ناهض الريس:

برزت لهم والنار سيل جائح ...   ونساؤها خلف الرجال تكافح

ما رامها الأعداء إلا رددت  ...   لحمي أنا مر وبحري مالــــح  

وغزة الشماء قال فيها الشاعر الليبي راشد السنوسي:

يا غزة الشماء يا حلما على ...   كل القلوب كرامة تتربـــــــع

وما أكثر ما قيل فيها من شعر..

ويكفي غزة شرفا التي ما إن تذكر حتى ترتسم في الأذهان صور البطولة، ومعاني التضحية والفداء والجهاد والعزة.
غزة لم تلفت الأنظار بأحيائها وأبطالها فحسب، بل حتى في قبورها، لترتسم من جديد غزة بعظماء ورجال توسدوا ترابها، ولم يغيبهم الثرى، فظل ذكرهم حيا تتناقله الألسن وتتشنف به الآذان، جيلا بعد جيل، ليظل المشهد عامرا بهم، متألقا بتراثهم.
وبين أيدينا نسخة من كتاب تاريخ غزة من خلال شواهد القبور، من تأليف الدكتور فرج الحسيني، وصدر عن مركز جمعه الماجد بدبي، وقد تلطف الأخ العزيز الأستاذ سالم الصوفي (أبو عمر) بإهدائي نسخة منه، وتأتي دراسة الباحث لتتناول تاريخ غزة من هذه الناحية، لتزيد رصيد الدراسات التي تناولت الموروث العمراني كدراسة الأستاذ سليم المبيض البنايات الأثرية الإسلامية في غزة وقطاعها والمساجد الأثرية في مدينة غزة للأستاذ عبد اللطيف أبو هاشم، والتراث المعماري في مدينة غزة للدكتور نهاد المغني، وغيرها من الدراسات. إلا أن دراسة الدكتور الأثري فرج الحسيني هذه تأتي من جانب لم يتطرق إليه باحث من قبل، وهي دراسة فريدة من نوعها، تستحق التوقف والتأمل، ولا أعتقد أنه من المنطق أن يصدر كتاب يتعلق بتاريخ مدينتنا غزة، فنمر عليه مرور الكرام، بلا شكر لصاحبه ولا تعليق ولا تعقيب، حتى أن التعليقات التي تختلف مع المؤلف، وتنتقد العمل, فهي لون من التفاعل والمشاركة والاثراء لمادة الكتاب، والكتابة عنه هي لون من مبادلة الوفاء بالوفاء، وفاء لباحث تحمل حرقة شمس غزة اللاهبة، وقرصة بردها, وهو يترقب وقتا محددا للتصوير, فيتنقل من قبر إلى قبر ومن مقبرة إلى مقبرة، وسط حجارة مكسرة، وطرق ملتوية وأشواك متناثرة هنا وهناك, أو وهو يكابد سخرية دفينة من زميل له في الجامعة الإسلامية, ليظهر سخريته بصورة أخرى, ويلوي لسانه مشمئزا من كلمة (شواهد القبور) لأن لسان الباحث لهج بذكرها. لقد كانت فترة عمل الدكتور محاضرا في قسم التاريخ والآثار في غزة، فترة خير وبركة على المدينة وأهلها، ونشكر الصدفة التي قادته من مسجد ابن مروان ليدخل من جهته الغربية إلى المقبرة المجاورة، وعندها لمعت الفكرة في خاطره, وترجمها الإصرار, فكان هذا الكتاب ثمرة عمل دؤوب وجهد مشكور.
يتكون هذا الكتاب من ثمانية فصول وكانت كالآتي:
الفصل الأول: دراسة في مضمون شواهد القبور الأثرية في غزة.
الفصل الثاني: دراسة في أشكال الشواهد وموادها.
الفصل الثالث: شواهد قبور مقبرة باب البحر والشيخ شعبان.
الفصل الرابع: شواهد قبور مقبرة ابن مروان.
الفصل الخامس: شواهد قبور مدرسة الغصين ومقبرة المفتي.
الفصل السادس: شواهد قبور مقبرة التلفيسي (أبو الكاس).
الفصل السابع: شواهد قبور مقبرة الدريرية والتمرتاشي.
الفصل الثامن: شواهد مقبرة كنيسة القديس بيرفيريوس للأرثوذوكس.
واستعرض المؤلف في مقدمة الكتاب تاريخ غزة، وأشاد بتاريخها وبالعصر العثماني الذي أسيء فهمه (ص 7) مما يدل على انتماء الباحث الصادق لدولة الإسلام، فلم يقع فريسة للتضليل ومروجي الأكاذيب، الذين شحنوا الكتب بالافتراء على العهد العثماني.
وإن كان العهد لا يخلو من عيوب وخلل كغيره من عهود الدول الكبرى، بفعل المكائد الخارجية, والفتن الداخلية, والتي لم تعالج فيه العيوب بالطرق الحكيمة، أو الأيدي الرحيمة, ولم يسمع للمخلصين الذين حرصوا على مستقبل العروبة والإسلام، فحملهم المناوئين والطائشين  ودعاة الخلاص لأن يغرقوا.... ويغرقوا من معهم، وكان ما كان، فكانت فلسطين هي الضحية. عمل المؤلف في سباق مع الزمن، وهو يرى تراثا يضيع وأثارا تطمس وشواهد تتهاوى، فلم يمسكه الإحباط عن الشروع في عمله، ولم يسلمه اليأس إلى الابتعاد، ورأي أن نشير إلى الموجود من تراثنا بالقول (ويوجد) مهما لعبت به أيدي العبث والافساد، فإنه من الخير لنا وللتراث من أن نقول في غد: لا يوجد أو كان يوجد، وهي لفتة بارعة من المؤلف وفهم لواقع صعب علينا أن نتعامل معه بحكمة وواقعية. ويقدم المؤلف اعتذارا مسبقا عن زلل أو تصحيف أو تحريف, ربما وقع فيه, مبررا ذلك بقوله: وليس الظاعن كالمقيم, وليس القريب كالغريب. أشاد المؤلف - وكان منصفا- بكتاب تاريخ غزة للشيخ عثمان الطباع الذي رأى النور بفضل جهد المحقق الأستاذ عبد اللطيف أبو هاشم، الأمر الذي مكن الباحث من الاطلاع على تاريخ واف لمدينة غزة وعائلاتها وأعلامها، لاسيما أن الطباع كان له اهتمام واضح بالآثار، وكان رحمه الله يرى ضرورة الاهتمام بها والمحافظة عليها وصيانتها من عبث العابثين.     
ورغم ما في تاريخ الطباع من إلمام بالعائلات وتاريخها، إلا أن العين الناقد للدكتور الحسيني رأت أن بعض الأسر المسيحية، بحاجة إلى مزيد من البحث والتعمق في تاريخها, فزاد وتتبع بعضها في المهجر, ولا شك أنها تمثل جزءا هاما من النسيج الوطني والاجتماعي، فكان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وكنا أخوة وشركاء في البلاد في السراء والضراء. وتعرض الباحث لمعاناته- شأن غيره من الباحثين- في التعامل مع بعض الأسر لمعرفة تاريخهم وما لديهم من وثائق وغيرها، وعرض معاناته من تسويف وتكاسل ومماطلة بعض الأشخاص أو الأسر في تزويده  بالمعلومات المطلوبة، ومن العائلات التي عمل الباحث على الاطلاع على تاريخها، هي عائلة ظريفة، فتواصل مع إدغار ظريفة المقيم في كندا، فزوده بمعلومات وفيرة عن تاريخ أسرته.
وهكذا جمع الباحث ودون تمييز، شواهد قبور المسلمين والمسيحيين، ليضمهم كتاب واحد كما ضمهم وطن واحد، وكما تآلف صوت الآذان في مسجد كاتب الولاية، مع صوت أجراس كنيسة بيرفيريوس، ليشكلا معا سمفونية في التلاحم الوطني الصادق، ونموذجا للتسامح الديني والتآخي، ولن ننسى كلمة المطران مانويل مسلم، عندما كان العدو يمطر غزة بصواريخ الدمار، فتدمر مساكنها ومدارسها ومساجدها، فعرض المطران على إخوانه المسلمين: أن يرفعوا الآذان من الكنائس، وهي كلمة سيظل التاريخ يرددها، رمزا لهذا التآخي الرائع. وهكذا راح الباحث يتعامل مع تلك الشواهد، يستنطقها ويقرأ ما سطره الأولون على صفحاتها، فكانت بحق شواهدا على ناحية مهمة من ماضينا العريق، واستطاع الباحث أن يجعل من كتابه انعكاسا لصورة واضحة مشرقة للحياة الاجتماعية في غزة، بالتزامن مع القراءة الواعية المتأنية في تاريخ أسرها وعشائرها، فأسهمت في وضوح المشهد، وجلاء ما كان غامضا، لتنضم مع صور أخرى تزيد المدينة روعة وبهاء. ويمكننا اختصار تعليقنا على الكتاب بالآتي:
1- أحسن الباحث في تبويب كتابة وترتيبه، من حيث الفهارس المختلفة، وكشاف الأعلام، مما يسهل على القارئ الوصول إلى مبتغاه.
2- أرفق الباحث خرائط توضع مواقع المقابر محل الدراسة، ومكانها بالنسبة لمدينة غزة, فأعطى صورة واضحة عنها.
 3- أشاد الباحث بالطباع وكتابه، فقال: أنه يعد الكتاب الوحيد والفريد عن مدينة غزة وما يتبعها من البلاد, (ص 42) إلا أنه لم يكتف به، وعمل الباحث على استكمال ما يعوزه البحث، ظهر ذلك جليا من وفرة المصادر والمراجع التي رجع إليها الباحث, الأمر الذي أثرى عمله, أظهره بهذه الصورة. 
4- وجه الباحث اتهاما للفلسطينيين على عدم اهتمامهم بالآثار، وأشار إلى ضرورة أن يوليها عناية كافية، وله الحق في اتهامه، لأنه اتهام مشروع. (ص24)
5- أبرز الباحث شواهد القبور، وأولاها عناية فائقة باعتبارها مرتكز الدراسة، وعرض من خلالها المكانة الاجتماعية والعلمية، وطريقة الحفر ومادة الرخام المستعمل، وطريقة الكتابة.
6- أشار الباحث إلى جملة من الشعراء الذي أرخوا لوفاة كثير من الشخصيات كالشيخ أحمد بسيسو والطباع وخلف والخزندار وغيرهم، ومن الطريف أن يكون للشاعر المعروف إبراهيم اليازجي رثاء على قبر اسحق ظريفة، إضافة لمراثي الشاعر محمد مصباح البيروتي.
7- يرى الباحث فوائد أخرى للشواهد تتعلق بالحالة الأدبية، فيقول: وبقدر ما تقوم به الشواهد في خدمة التاريخ الاجتماعي والسياسي، تلعب دورا أيضا في إلقاء الضوء على حالة الشعر والأدب في غزة في القرن التاسع عشر. (ص10)
8- أشار الباحث إلى إلتفات الطباع للآثار، واهتمامه بشواهد القبور كمادة للتاريخ، وتوثيق وفاة بعض الشخصيات من خلالها.
9- أبدع الكاتب في تصوير القبور، من حيث المادة التي صنع منها القبر وإبرازها في صورة توضيحية، فأحسن إخراجها وتصويرها على شكل مجسمات.
10- صور الباحث شواهد القبور، وتوثيقها وألحق بها جدولا تضمن مقاس الشاهد، ونوع الرخام، ونوع الخط المنقوش، وعدد السطور المنقوشة، واسم الشاعر إن وجد.
11- أشار الباحث إلى دلالات الصور التي رسمت أو نقشت على القبر وعلاقتها بمهنة المتوفي أو مكانته كأدوات القهوة والطربوش والعمامة وغيرها، ولا يخفى ما لهذه الأدوات من دلالات هامة , 12- تعرض الباحث في دراسته – وكان موفقا- عندما عقد فصلا مستقلا لمعاني الألقاب التي كانت سائدة في العهد العثماني، مثل: أغا وأفندي وبك، خان والأميرالاي، مما يمكن القارئ من الالمام ومعرفة مكانة الشخصية التي تحمل اللقب.
  13- كشف الباحث من خلال الشواهد الحجرية بأنها سجلات مفتوحة أو بطاقات تعريف بالشخصية من حيث المكانة والمهنة وتاريخ الوفاة.
   14- تعرض الباحث إلى النواحي الشعرية في المراثي المنقوشة، وما صاحب بعضها من أخطاء لغوية وتجاوزات نحوية ومحظورات وتكلف وغيرها، وقع فيها الشعراء، وقد ظهرت معرفة الباحث باللغة لاسيما عندما حاول معرفة شاعر مجهول من خلال مقارنة الشعر المجهول قائله مع شعر آخر، مثل شاهد قبر إسماعيل الوحيدي حيث ورد في رثائه:" قد كان جوهرة بجيد زمانه" وهي مكررة في شاهد قبر الشيخ عبد اللطيف الخزندار، ليستدل بأن الناظم واحد, وفي لفتة بارعة يقارن بين شاهد قبر نيقولا ظريفة وابنته, ولم يعرف من نقش التأريخ الشعري, ولكنه من خلال المقارنة مع شاهد قبر آخر, فإنه يرجح أنه يشبه أسلوب الشاعرة اللبنانية وردة نصيف اليازجي, مستشهدا بنموذج من شعرها. 
15- أشار الباحث إلى توقيع الخطاط الشهير عمر لطفي شهاب الدين، على شاهد قبر وهو صاحب التوقيع على نقش تجديد سبيل الرفاعية في عهد السلطان عبد الحميد العثماني, ومكانة الخطاط في ذلك العهد(ص81).
16- لم يتقيد الباحث بفترة الدراسة، وكان موفقا في أن يضمن الكتاب جدولا بقبور بعد فترة الدراسة، لما لها من أهمية تاريخية، وهو أمر يحسب للباحث.
 17- صنف الباحث العائلات من خلال شواهد قبورها كعائلة الحسيني والغصين وأبو خضرة وسيسالم والبرعصي وغيرها.
18- ومن الطريف أن يشير الباحث إلى قبر مصطفى بوشناق، القبر الوحيد من قبور غزة، المكتوب بالفارسية.
  19- أظهرت الدراسة وجود قبور للشيخ عايش الوحيدي وأبنائه وبعضا من أحفاده وغيره من البدو كأبي معيلق وأبي رقيق, مما يعني أن البدو كانوا سكانا مستقرين في البلاد, وإذا أضفنا لها عقود الزواج التي كشفتها محكمة غزة الشرعية, مما يؤكد أنهم كانوا جزءا من النسيج الفلسطيني, ولم يكونوا بدوا رحلا يتنقلون طلبا للكلأ و الماء, كما يعتقد البعض. واتماما للفائدة المتوخاة من هذا الجهد الكبير، لابد من الإشارة إلى بعض ملاحظاتنا على هذا العمل وهي:1- خلط الباحث بين قبر سلامة أبو رقيق وسليمان أبو معيلق (ص293-295) .
2- أبو معيلق لم يكن شيخا على القديرات كما ذكر الباحث (ص296) والصواب هو أبو رقيق.
3- لا نوافق الباحث على قوله: أن الصليب رمز موت المسيح المخلص (ص 329), لأننا نؤمن بقوله  (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).  تعالى:
4- كان على الباحث أن يعلق على ما كتب على قبر حسين باشا مكي: قتله أشقياء العربان، وأن يتوقف عند كلمة أشقياء، ومدى دقتها، لأن من قتله لم يكونوا أشقياء بالمعنى الاجرامي كما حاولوا تصويره، وهو مصطلح كان سائدا في ذلك العهد لمن عارض الحكومة أو خالفها، ووصف الاحتلال الإنجليزي الثائر الشيخ عز الدين القسام بالشقي, فرثاه الشيخ الشاعر نديم الملاح ورد عنه التهمة بقوله:
 سموك زورا بالشقي ولم تكن ... إلا بهم أشقى البرية دارا 
وكان من قتله يتبعون الدولة ويقدمون لها خدمات في تأمين الحجيج وسلامتهم, فثاروا على مكي لما وجدوه، يطمع في عوائدهم ومخصصاتهم, ويأكل حقوقهم التي خصصتها لهم الدولة, ورفض أن يدفعها لهم بعدما أنذروه ثلاث مرات وكان في كل مرة يماطل ويسوف, وأخيرا كشف عن وجهه الحقيقي وكان مكابرا عنيدا, فلم يسمع لهم وأصر على موقفه الظالم، فاستدرجوه - ولم يقطعوا الطريق كما ذكر الباحث (ص 237) - وقتلوه مضطرين, وتلك نهاية كل مكابر عنيد, يأكل حقوق غيره, وليت الباحث قرأ وصف المرادي صاحب سلك الدرر للباشا فقال: " بطيء الحركة عن شهامة الوزارة", لعرف عندها حقيقة شخصية القتيل, ولأنصف الثوار, وهو الوصف الحقيقي لهم.
5- بعض التواريخ في الوفيات كان فيها أخطاء واضطراب كآل الحسيني وغيرهم، وهي بحاجة لتدقيق وضبط، وإن كان بعضها ناتج عن التحويل من تاريخ هجري إلى ميلادي.
6- تعرض الباحث لذكر المفتي أحمد محي الدين الحسيني (ص 121) ومن جملة ما قاله عنه: وحدث أن ثار أهل البلد ضده، فنفي إلى القدس 1865م, والحقيقة أن ما وقع للمفتي ليس بسبب ثورة أهل البلد, بل من كيد بعض الشيوخ والمتنفذين الذين دسوا الكتب للحكومة ضده, حسدا له, وألبوا عليه الحكام, وقد أشار المفتي نفسه إلى هذا في قصيدته إلى خديو مصر اسماعيل ومنها قوله في وصف حالته:
 مكرت به أعداؤه حتى احتمى ...  في حرمة لا يستباح حماها
7- ليس صحيحا ما ذكره الباحث بشأن أحمد عارف (ص 114) من أنه حكم عليه بعدم مغادرة القدس, واتهامه بمراسلة الانجليز, ثم صدر الأمر بنفيه إلى قونيه بالأناضول عام 1916م, والحقيقة أنه اتصل بالثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف حسين في حينه.
8- لا نوافق الباحث على قوله: ومن المعروف أن الذبيح في الشريعة المسيحية هو اسحق وليس إسماعيل، (ص 334) فالصياغة فيها تشكيك بالرواية المعروفة والثابتة عندنا، ولعل الباحث خانته العبارة ولم يحسن الصياغة، لأننا نؤمن بقول رسول الله عليه الصلاة والسلام:" أنا ابن الذبيحين" وهو ما يعني أن الذبيح الأول هو إسماعيل، والذبيح الآخر هو عبد الله والده، عندما هم عبد المطلب بذبحه.
9- أشار الباحث إلى فخامة قبور المسيحيين، وتفوقها على قبور المسلمين، والحقيقة التي يجدر الإشارة إليها هي اهتمام المسلمين بالقبور والمغالاة فيها، ومنها قبور لعلماء أجلاء ومشايخ وأهل الفتوى, وهو أمر مخالف للسنة النبوية, ومهما يكن من أمر فقد كانت شواهد للتاريخ.10- استوقفنا حكم الباحث على شعر الطباع بقوله: وكان له ملكة قوية في نظم الشعر بحيث عد الشاعر الأبرز بين أبناء جيله, ومن ثم نظم أهم المراثي لتأبين علماء ووجهاء وأعيان عصره,(ص 42), وهذا الحكم لا يجوز أن يصدر إلا بعد قراءة ودراسة متأنية لشعراء تلك الفترة, والتي كان فيها شعراء مبرزين, ولعل ما ميز شعر الطباع عن غيره, أنه كان له حضور دائم في مراثي الوجهاء وكتابة تأريخ وفاتهم لينقش على القبور, ولا ننسى شعراء فحول كالشيخ أحمد محي الدين الحسيني والشيخ راشد المظلوم والشيخ سليم شعشاعة وغيرهم.
11- ذكر الباحث في (ص123) السطر السادس فقال: وقد جاء (التعريض) باسم الحاجة عالمة آل رضوان أيضا في أبيات تليت في وفاة أخيها العلامة....., وكلمة (التعريض) هنا ليست موفقة، لأن المقام مقام تلميح وإشارة, وليس مقام تعريض, يحمل معنى الإساءة والتشهير والغمز المبطن, كما كانت هناك بعض الأخطاء المطبعية منها, كتابة خليل سكيك بدلا من إبراهيم سكيك مؤلف كتاب غزة عبر التاريخ, وغيرها.  وغيرها من ملاحظات لا يخلو منها عمل، إذ الكمال لله وحده. هذه الشواهد..... شواهد على أن غزة كانت مدينة عامرة بالسكان، مزدهرة العمران، وسائر مدن فلسطين، وبلغ الاستقرار والرفاهية من أهلها أنهم لم يزينوا البيوت والقصور، بل اهتموا في بناء قبور، بعضها من الرخام الخالص، وأبدعوا في طرق الكتابة والنقش، سواء كان محفورا أو بارزا، مما يعكس استقرار السكان والتصاقهم بوطنهم.هذه الشواهد ..... كانت شواهد على أن في هذه البلاد شعب مستقر متجذر، ولم تكن أرضا بلا شعب، كي يسكنها شعب بلا أرض، كما ادعى الأعداء وروجوا من دعاوى وأكاذيب.ومما يدل على أهمية الشواهد ما أشار إليه أمير البيان المرحوم شكيب أرسلان في كتابه الموسوم ب“تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط" ص 303: أن مستشرقا إيطاليا أطلعه على بحث أعده عن تاريخ مالطا، وكان لشواهد قبور المسلمين دلالة على وجودهم في مالطا.ولعل من الطريف أن أذكر أيضا هذه الحادثة التي وقعت وأنا أكتب هذه المقالة: حدثني صديق أن أحدهم استشاره في شراء قطعة أرض, عقد ملكية الأرض وكيف آلت إليه، ولما اطلع صديقي على عقد الشراء الأصلي، وتاريخ الشراء, وقرأ أسماء الشهود, لاحظ أن أحدهم من أقاربه، فاستوقفه الأمر, وقارن بين التواريخ, فتبين له أن العقد كتب بعد وفاة الشاهد, مما يعني أن العقد مزور، ولما أخبرهم بالأمر, لم يصدقوه، فما كان منه إلا أن قام بتصوير شاهد القبر للشاهد الموقع على العقد، وعرض تاريخ الوفاة, وتبين حقيقة أن الشاهد متوفى قبل تاريخ التوقيع على العقد بأربع سنوات, فلم تتم عملية البيع. إن الشواهد سجلات مفتوحة، صادقة لا تزوير فيها ولا تحوير، تبوح بأسرارها بكل يسر وسهولة, وإن تصوير الشواهد الذي قام به الباحث كان ضروريا, ليس كمادة للدراسة, بل أيضا للحفظ في أرشيف وزارة السياحة والآثار, لاسيما أن غزة معرضة للدمار في كل حين, حتى المقابر ليست بمنأى عن الدمار, والحمد لله أن سلم تلك الشواهد من الدمار, حتى صورها ووثقها لنا الدكتور فرج, ليتسنى للأجيال القادمة أن تطلع عليها أينما كانت دون زيارة لهذه المقبرة أو تلك. وعرف الشاعر القديم مكانة وأهمية الآثار فقال:
 تلك آثارنا تدلُّ علينا  ...  فانظروا من بعدنا إلى الآثارِ
وهذه القبور جزء من آثارنا، ومعلم بارز من معالمنا، ستظل شاهدة على تراثنا الخالد.ختاما هذه السطور.... هي تحية لمن حيا غزة، وهي وفاء لمن كان وفيا لغزة وتراثها، وهي محبة لمن كان محبا لغزة، فأثمر جهده، هذا الكتاب الرائع والممتع.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق