ولد الحاج / مرزيق قعود سلمان أبو مغيصيب
في الشويحي في قضاء بئر السبع عام 1936، في عشيرةٍ تنتمي إلى قبيلة الترابين.
بدأت رحلة تهجيره من دياره عندما كان عمره
12 عاماً، وحطّت رحاله في قطاع غزة حيث لا
يزال يسكن إلى اليوم، بينما لا تغيب عن ابن الثالثة والسبعين ذكرياتُ الأرض السليبة والوطن الأصلي الموجود على
مرمى حجر.
الدراسة :
درس مرزيق المرحلة الابتدائية في مدرسة
أبو الحصين، وهي مدرسة حكومية كانت زمن الانتداب
البريطاني، لغاية الصف الرابع الابتدائي الذي كان يُعدّ أعلى درجة في التدريس في هذه المدرسة. ويروي لنا
الحاج مرزيق عن المواصلات في ذلك الوقت، فيقول
إنها كانت على الخيل، وكان أخوه سلمان (رحمه الله) يركب نفس الدابة التي يركبها الحاج مرزيق، حتى يصل
مدرسته التي تبعد عن بيوت العشيرة نحو 12 كيلومتراً.
يروي لنا الحاج أن هذه المدرسة بنيت على
نفقة العائلات الموجودة في القبيلة، وكان المعلم
في هذه المدرسة الحكومية الأستاذ محمود أبو مر يتقاضى مكافأته من الحكومة البريطانية. ولم تكن هي المدرسة
الوحيدة في القبيلة آنذاك، بل كانت هناك مدرسة
في عشيرة الزريعي وفي عشيرة أبو ستة وغيرها.
ويتذكر أن دوام المدرسة كان يبدأ في الصباح
الباكر إلى الساعة الثانية ظهراً تقريباً،
وعندما يعود من المدرسة بعد وقت الظهيرة، يتجمع أطفال العشيرة ويمرحون ويلعبون إحدى لعباتهم المفضلة ومن
بينها سباق الخيل.
الصلاة:
كانت الصلاة تؤدى في الديوان في غياب المسجد
في ذلك الوقت ، ويُعتبر الديوان ملمّاً للجميع، يصلون فيه كل الصلوات.
وفي شهر رمضان المبارك يقوم الأهالي بعمل
'المولد' النبوي، حيث يتم إنشاد مديح للنبي
صلى الله عليه وسلم، ويذبحون شاة أو جازوراً، ويكون 'المولد' عبارة عن نذر ينفذه صاحبه أو 'رَحَمة' عن روح أحد
الأموات. ويتم في الديوان تقديم كل شيء من
خيرات البلد من أكل وشرب. وكانت النساء تطهو على الصاج لكل وجبة من الطعام، وكان السحور عبارة عن لبن وسمن،
وهو المتوفر عندهم حيث يتوفر في كل بيت قطيع
من الأغنام، أما الإفطار فهو ذبائح يقوم بذبحها
أصحاب العائلات وترسل إلى الديوان. وكان الناس يفطرون في الديوان، ويُعتبر عيباً أن يفطر الرجل في بيته عند زوجته، إذ يجب
أن يفطر في الديوان مع الرجال، ويصطحب الرجل
وهو ذاهب للديوان معه ما يقدر الله له من أطعمة، ولا يخجل أي أحد من الطعام الذي يأتي به لأنهم يعتبرون
أنفسهم عائلة واحدة لا فرق بينهم. وفي وقت
الإفطار من كان ماشٍ في الطريق ويدركه وقت الإفطار يذهب للديوان ليفطر، ويكون شباب من أهل الديوان على الطريق
يدعون من كان ماشياً في الطريق للإفطار سواءً
من أهل العشيرة أو من غيرها، وكان يُعتبر عيباً
أن يُترك المارة بدون دعوتهم لتناول الإفطار عندما يدركهم وقت أذان المغرب.
وفي العيد يتجمع رجال العشيرة في الديوان
بعد انقضاء صلاة العيد ويصافحون بعضهم بعضاً،
ثم ينطلقون إلي بيوتهم ليكملوا عيدهم، وبعد ذلك تتجمع الخيل والخيالة لتمرح في ساحات العشيرة.
الأمور التي تخص الحياء :
يؤكد الشيخ أن النساء كان عندهن حياء أكثر
من نساء اليوم، فعندما يمر في الطريق رجل وتكون
امرأة في الطريق وترى المرأة الرجل، فإنها تجلس على الفور وتدير وجهها عنه وتضع خمارها على وجهها حتى لا يعرفها
من هي، وهذا يدل على الأدب والحياء عندهن.
وكانت للبيوت حدود، فلا يمرّ الرجل من أمام باب
البيت، بل يلف من خلف البيت المصنوع من الخيش. وتختلف هذه العادات عن يومنا هذا كثيراً.
الفرح في أجواء بئر السبع قبل الهجرة :
ويحدثنا عن الأفراح فيقول إنها كانت تستمر
ثلاثة أيام، وكان هناك من يذبح رأسين أو أكثر
من الجِمال والخراف، ويأتي المهنئون ويصطحبون معهم رؤوساً من الأغنام والجمال، ويكون في ميدان الفرح كتبةٌ
يكتبون كل واحد وما اصطحب معه من الهدايا،
حتى تُردّ الهدايا إلى أصحابها في المناسبات القادمة. وكان الفرح في السبع قبل الهجرة، عبارة عن سامر ودحية
لمدة أسبوع، وكما يقول الشيخ 'تكون الخيل أكثر
من مائة رسن تلعب وتمرح في ميدان الفرح'، ويكون
صاحب الفرح قد حضّر للخيل خمسة قناطير من الشعير ليملأ 'مخالي' الخيل حتى تأكل، لأن الخيل تأتي مبكرةً في الصباح دون أن تفطر
وتبقى في المساء فيطعمها صاحب بيت الفرح، ويُقام
خلال أيام الفرح سباقٌ للخيل تفوز فيه أفضل
خيل وأفضل فارس.
سباق الخيل:
ولا تقتصر سباقات الخيل على الأفراح، بل
يُجرى في البلد سباق للخيل على مدار العام،
ويتسابق فيه الخيالة إما في بئر السبع نفسها أو خارجها في صرفند مثلاً، ومن يفوز يحصل على الدرجة الأولى ويأخذ
جائزة قيمة عبارة عن نقود أو ما يقابلها من
أشياء ثمينة.
أما الخيل فكانت مخصصة لركوب الظهر فقط،
وكان عيباً عند أهل البلد إذا شُدّت إلى الخيل
عربةً (كارة) أو استُعملت في أمور أخرى غير الركوب.
الزراعة:
يؤكد الحاج مرزيق أن الزراعة التي كان متعارفاً
عليها في السبع وفي قبيلة الترابين هي البطيخ،
والقمح، والبامية، والفول والعدس، وغيرها من الزراعات الموسمية. وكانت القبيلة تعتمد على مياه الأمطار
وبعض آبار المياه القليلة، وتوجد عند المزارعين
مواشٍ كثيرة تخدم المزارع في الزراعة ويستفيد
منها لنقل الزراعة من مكانٍ إلى أخر، ويستفيد أيضاً من لحومها وألبانها ومن مخلّفاتها
للأشجار، وكل واحد في القبيلة لديه أعداد من المواشي، ومن لا توجد عنده مواشٍ يعطيه أهل الخير بعضاً من المواشي
حتى يعيل نفسه فلا يحتاج أحداً في القبيلة.
القضاء :
سألناه عن القضاء فقال إن القضاء كان يُؤخذ
من العادات والعرف ومن الشرع الإسلامي، 'وكان
جدي قاضٍ في بئر السبع وتورّث القضاء عنه والدي في السبع أيضاً، وبعد الهجرة عام 1948م هاجر الناس من أراضيهم
وديارهم إلى قطاع غزة وهاجرت العائلة مثلها
كباقي العائلات المهجَّرة ولجأت إلى خان يونس،
وبالتحديد منطقة القرارة، وبعد الهجرة استقرينا في خان يونس، وفتح والدي ديواناً، ومن بعد وفاة والدي أصبحتُ أنا شيخ العشيرة
والقاضي، والقضاء الذي أعمل به أنا ومن قَبلي
توارثناه عن الأجداد، وهو قضاء في زياد المال'.
القضاء العرفي ودوره في المجتمع:
ويؤكد أن القضايا كانت تُوجّه إلى القضاء
العرفي لأنها كانت تخلِّص المشاكل أكثر من
المحاكم، وفي عصر الرئيس ياسر عرفات رحمه الله كانت المحاكم تُرسل القضايا إلى القاضي مرزيق أبو مغصيب،
وقد حلّ في ديوانه أكثر من قضية دم كانت المحاكم
تعجز عن حلها. وهو يَعتبر الحق من الشرف 'ولو كان
الحق من والده يطلعه'، ويُخرج الحق لصاحبه من دون أي تحيز إلى أحد 'لأن الحق من عند الله، ويَعتبر العرب إخراج الحق من
الشرف، وعندما يتخلى القاضي عن كلمة الحق يُعتبر
لا شرف عنده، وعلى ذلك تماشى القضاء وتوارثناه من
الأجداد إلى الأبناء، وأتّجِه أنا في القضاء وإصدار الحكم إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام'.
الحكم في القضاء:
ويشرح لنا أن العين نصف الدية، والرِّجل
نصف الدية، واليد نصف الدية، والخشم أي الأنف
عبارة عن دية كاملة، والعمود الفقري دية كاملة، والحكم يعتبر 'شرع وفرع يمشي عليه، لأننا القضاة نأخذ الحكم
من الشرع'، ويُشهد للحاج مرزيق أنه عمل على
حل قضايا بها دم كثيرة جداً، وطُلب الحاج مرزيق
إلى الأردن في مطلع التسعينات حتى 'يطلع حق' لعائلة فلسطينية في الأردن، وفعلاً 'أطلع الحق' لهم بحكم الله، وعندما أطلع
الحق قال 'هذا هدية لمنظمة التحرير الفلسطينية
في الأردن'. ومقدار الدية المتعارف عليه من الشرع هو خمسة كيلو إلا ربعاً من الذهب السبيك غير المصنَّع،
والديّة مربوطة بالذهب السبيك غير المصنَّع.
مشواره في القضاء:
عمل الحاج مرزيق قاضياً منذ أول حياته وورث
القضاء عن والده، وعمل عضواً في اللجنة المركزية
مع العميد فؤاد الشوبكي في حل المشاكل (فؤاد الشوبكي أسير لدى إسرائيل الآن). ويحدثنا أنه عندما جمع
الرئيس عرفات الوجهاء عند وصوله إلى قطاع غزة
عام 1994م قال لهم 'بدنا نعطيكم ختم مخاتير' فقال له الحاج مرزيق: يا سيادة الرئيس: المختار يعني يتعامل
مع السلطة التي تحكم البلد، ولكن نحن مشايخ
وليس مخاتير، فوعده أن يعدِّل هذا المرسوم. وأكد
الحاج مرزيق أن 'الشيخ' أفضل من كلمة 'مختار'، لأن كلمة مختار عيب، ويُعرف منذ زمن الأجداد أن راعي العشيرة هو الشيخ وله تقدير
بين أبناء عشيرته.
ولم نفارقه قبيل أن نسمع منه أمنيته: 'أن
أرجع إلى بلدي ولو يوماً واحداً وبعدها أموت
هناك، حتى أتذكر كل شيء منذ الصغر'، ويضيف: 'أشكر كل من يهتم بشأن أهالي السبع خاصة والشعب الفلسطيني عامة المهجّرين
من أرضيهم منذ عام 1948م، وسنعود بإذن الله
مهما طال الزمن أو قصر'.
_____________________________________________________________________
المصدر: الكاتب الصحفي عبد الله عبد الحليم
عثمان / غزه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق