القضاء عند البدو الجزء الأول - هنا الترابين

عاجل

مدونة تهتم بتراث وعادات وتقاليد قبيلة الترابين

الأربعاء، 24 أغسطس 2016

القضاء عند البدو الجزء الأول


القضاء عند البدو :

فطر سكان البادية من العربان على حب العز والفخار , تصبو نفسه الى المكارم , وشريف الأعمال , ولا يخلد الى الذل والصغار ,مهما جابهته المصاعب والأقدار , وهو لا يطمح الى المعالي إلا لينال صيتاً بعيداً وشهرة واسعة بين أقرانه , وفي عشيرته , فيغار البدوي على شرفه ويؤثر المنون على العار والهوان , وتنهض به عزة نفسه الى الإنتقام , أو طلب الحق أمام القاضي البدوي , وقد يثور ثائره لأدنى امرٍ يحط بقدره ويخفض من حاله.
ما هي الحقوق في القضاء العشائري التي يستند اليها قضاتهم  : 
هي قوانين نقلية محفوظة في البادية مرسومة لتأديب المجرمين وتهذيب العربان , يعرفها ارباب القضاء ويجرون عليها , وبها يعوضون لصاحب الحق أو لأهله ما فقدوه من الشرف أو المال أو الحياة , ومن هذه القوانين عندهم أن الأخذ بالثأر لا يعد فرية يجازى عليها المنتقم , فالأنتقام عندهم من النواميس الشريفة والفرائض الضرورية المقدسة التي لا يسعهم تجنبها , ولو طال عهدها فالضغينة تبقى مستورة في صدورهم كالنار تحت الرماد , فيأتي الريح يوماً ويكشف الرماد وتظهر الثارات والأحقاد , وكثيراً ما يرفض البدو حكم قاضيهم ليرووا ظمأهم بدم الأعادي , ويثأروا للقتيل وينالوا الطوائل بأيديهم وقد يجمع البدوي اولاده على سرير موته ويوصيهم أن يأخذوا الثأر من اعدائه ,  ويعتقدون إن الدم يصرخ الى السماء صراخاً اليماً  , وان دم المقتول يصرخ دائماً في الليالي الدامسة , ويطلب من اولاده وأقاربه وعشيرته أن ينتقموا له من قاتله , ينتظر البدوي الفرصة الموافقة لخذ الثأر بصبر عجيب , ويقدم على هذا الأمر بنفس هادئة وسرور عظيم , لانه يعلم أن القضاء العرفي لا يطالبه بهذا الدم , اذا كان دم القاتل نفسه أو دم اولاده او اقربائه حتى الدرجة الخامسة , اما اذا زادت هذه القرابة على الدرجة الخامسة فيعد قتله عندئذٍ جرماً , على ان ارباب الحق الذين يعجزون عن الأخذ بالثأر لقلتهم أو لضعفهم تجاه بسالة عدوهم , فإنهم يلتجئون الى شيخ كبير من عشيرة أخرى يعرف بجرأة صدره , ورباطة جأشه , وثبات جنانه , وهو ينتقم لهم من عدوهم , أو يطلب القاتل ويلزمه بالقيام بحق الدم , إن من يتأمل في عادة الانتقام يحكم لأول وهله انها بربرية لا يقدم عليها الا الأمم المتوحشه , وهذا فيه جانب من الصحة , ولكن لولا وجود هذه السنة في البادية لغدت القفار ومواطن العربان دار حرب دائمة , لأن المجرمين لا يهابون قتل النفوس البريئة , اذ لا رادع يردعهم , ولا سيف يمنعهم , وسنة الدم بالدم تصد الاشرار , لذلك يندر القتل في البادية , وخوفاً من العقاب لا يهدر البدوي دم المسافرين , بل يكتفي بسلبهم اموالهم , ثم ان العرب يرحلون على ظهور اباعرهم طلباً للرزق من الغزوات قديماً ومع ذلك يتجنبون القتل لئلا تنزل بهم الضربات الهائلة التي تأمر بها شريعة الأخذ بالثأر , وهذه الشريعة تجعل البيداء في أمن وسلام , يسافر فيها المرء غير خائف على نفسه وان سلبوه ماله بخلاف القفار الافريقية حيث يقتل قبل أن يسلب .
 القاضي العشائري :  هو أمير من أمرائهم تسلطه القبيلة أو العشيرة على أفرادها , لاظهار الحق من الباطل طبقاً للتقاليد والأعراف والعوائد النقلية القديمة , فكل قاض له اختصاص معين يقضي به وله صفات وخبرة وشهرة يحولون اليه ويعرضون دعواهم  المحولة اليه فيحكم بينهم بحس عاداتهم الجارية , وهؤلاء القضاة في الغالب لا ينالون كالقضاة الحقيقيين في المحاكم النظامية راتباً لقضائهم , وإنما يعملون ذلك , كما يقولون لوجه الله الكريم , ومن عادات هؤلاء القضاة انه اذا رفعت اليه دعوى بأحد أقاربه لا يحكم فيها بل يحيلها الى قاضٍ آخر غيره من القضاه المجاورين أرباب العدل والأنصاف , لئلا تحوم حوله الظنون في احكامه . 
كيفية التقاضي : اذا وقعت الخصومات فيما بين العربان على ممتلكاتهم من الحيوانات والارضين , هاج هائجهم , فتستفزهم في الحال نزوة الغضب , فينتفظون من الغيظ , ويرتجفون من الحنق , فينتضون السيوف ويطلقون الرصاص , لما طبعوا عليه من حدة الأخلاق , وحفظ الحقد والضغينة , فاذا حل الخصام , وأرتفعت الأصوات والشتائم , وأنتضيت السيوف , وسمع ازيز الرصاص , دخل المصلحون بين المتخاصمين , وحملوهم على الكف عن الخصام وحل المشكل بالقسم او بحكم القاضي المختص وللتقاضي درجات, أما القسم فمن أرهب الأمور عند العرب وأقدسها , ولا يقدمون عليه الا مضطرين لأن البدوي تملك قلبه الخيالات المخفية , والتصورات المرعبة ’ لتبعات القسم , لذلك يتجنب الحلف ولو كان به صادقاً مخافة أن يزل بحرف , ويهاب اتخاذ المولى الكريم , شاهداً على صحة قوله , ولو كان من قطاع الطرق والقسم عند العرب أنواع مختلفة : منها قسم يقوله القاضي أمام الجموع بعد ان يسمع حجة الأطراف فيقول للشخص المتهم ( أقسم الله عليك بالله وبصلاة محمد هل فعلت الأمر الفلاني , فيقول والله وصلاة محمد لم أفعل ) وهناك قسم في حلف اليد , ويضع المحّلف يده على راس المحلف ويقول : ( أناشدك الله , بما تحوش وتنوش , بحلابات الحليب ونسافات العسيب " أي الخيل " وبالنساء ما تجيب , داخل عليك عالمال والعيال , من الحل والاستحلال, اليوم بين عينك وباكر بين متنيك , ان اطلعتها تسرك وان خبيتها تضرك , أما صار كذا وكذا فيجيب : إي بالله ورسوله صار كيت وكيت أو: بالله ورسوله ما صار ذلك ) ...الخ من انواع الأقسام وهي كثيرة , فالبدوي يرهب من القسم ويلجاً للقاضي العرفي وهذا ما يدعونه ( بالقضوة ) فما أجمل بيت الشعر حين يزين بانواع الاثاث , ويفرش بالسجاد الفاخر , ويعلق على جدرانه السلاح اللامع , ويجلس القاضي كالأمير في صدره للقضاء , ومن حوله وجوه العشيرة فيسمع صوت ( المهباش ) يدق القهوة للغانمين , فتطبخ ويطاف بها على الحضور دفعات متوالية وفي شربها وتقديمها هناك اصول متبعة وبعد شرب القهوة يقوم احد المتخاصمين وهو المدعي , ويجلس وسط بيت الشعر بين الحاضرين ويلتفت الى القاضي ويقول : وهو عندهم بمثابة الأستدعاء يفتحون به الدعوى : ( وإيش بك يا قاضينا يللي بحقك تراضينا جيتك هدي ومشياً قدي , وافلح وصل عالنبي فيقول الحضور : عليه الصلاة والسلام , فيقول : حظي وحظك يدخلان على اربعه واربعين نبي من الفوط والنوط والحظ الردي , وأنا داخل على المال والعيال من شيء مبين علي وعليك غّبي , وأنا حاططها بعيونك السود وربعك القعود , وبالمرأة ما تجيب ونسافات العسيب , ثم يذكر ما جرى له بصوت جهوري , بحيث يسمعه الحضور من اطراف بيت الشعر , ويورد البراهين في ذلك , الى أن ينتهي ويعود لمقامه الأول , فيقوم المدعي عليه ويجلس في وسط المجلس , ويكرر المقدمة نفسها ثم يفصح عن ادلته ولا يعارضه أحد بشيء والقاضي بين ذلك صامت لا يبدي كلمة وبعد انتهاء الطرفين وكل منهما ساق حجته يلتفت القاضي الى المتخاصمين ويقول : 
( افلحوا واصلحوا خير لكم ) فأن أبوا الا بتبيان واظهار الحق يقول : ( قدموا الرزقة )
الرزقة : هي اجرة يدفعها احد الخصمين للقاضي تقدر بربع قيمة ما يخاصم عليه وقد يجري في هذا التقدير جدال طويل يدوم ساعات من أجل تعيين مقدار الرزقة إن نقوداً أو عروضاً كفرس مثلاً أو سيف أو بعير وربما يقبل بها القاضي فيرفض الحكم الى أن يستحسن ما يقدم له .
أنواع الرزقة : منها ما يسمونه رزقة المبطل , ومنها رزقة الحق , فرزقة المبطل وهي التي يدفعها المجرم او المفتري للقاضي , ورزقة الحق وهي التي يدفعها صاحب الحق , واذا استأنف المحكوم عليه دعواه الى قاضي اكبر وحكم له بالحق , وكان قبل ذلك قد دفع رزقات عديدة يردها له المحكوم عليه لان المستأنف الكاسب حقاً بجميع الرزقات التي يكون قد دفعها للقضاة من قبل .
الكفلاء : بعد ان يتفق الخصمان على الرزقة يجب عليهما ان يقدم كل واحد كفيلاً يتعهد أمام الشهود بدفع الرزقة اذا ابى الآخر تقديمها فيقولون " هذه المسألة في وجهك " وان كان الكفيل غائباً يقولون : " ترى هذه المسألة في وجه فلان " أي انه يتعهد بدفعها أو يحمل المتخاصمين على دفعها , فيقول القاضي للكفيل : " عندك الشيء الفلاني " فيجيب : " عندي ما تطلب وبحق الله ورسوله ما أبوق " ( أي لا اخون العهد ) رأينا أن الكفيل نوعان : غائب وحاضر , فالغائب هو الذي لا يحضر مجلس القضاء حينما ترفع ( الدعوى ) ولكنه يتم اعلامه عن هذا الكفل وللكفل شروط وهي ان لا يكون مكبوراً حتى لا يتم التفويل فالكفيل الغائب يختاره الحاضرون والقاضي لإنقاذ الأمر , والحاضر هو القائم بين الحضور في أثناء الدعوى , على ان لكل منهما واجبات خاصة تختلف عن واجبات الآخر : فالغائب مضطر الى قبول الكفالة ان بلغ بها من قبل القاضي وووافق عليها والحاضر له الخيار في قبولها او رفضها لذلك جاء في امثالهم : ( الغائب مضطر والحاضر حر ) ولا بد للكفيل من صفات , أخصها أن يكون معروفاً بين الناس بصدقه واقتداره على الدفع , والذين يحرمون حق الكفالة هم شاهدوا الزور , والجبناء الذين يشردون في الحروب والغزوات , هؤلاء كلهم مرذلون عند العربان , لا يقبلون في مجالس الكرام , ولا يشربون القهوة في بيوت القضاة ولا تقبل لهم شهادة , واذا جلس احدهم في مجلس الشيوخ صب له الشيخ القهوة , وبينما هو يرفع الفنجال الى فمه ينزعه الشيخ بعنف منه ويهرق القهوة على التراب ويقول له امام الجميع " أنت لا تستحق القهوة ولا لك مقعد بين الرجال " فيغادر مهاناً .
الشهود في الدعوى : وبعد تعيين الكفيل , يتجه القاضي نحو المدعي ويقول له : يا فلان , اذا كان عندك شاهد لا يكذب ولا يوجد عليه اعتراض فليتقدم ويشهد . فيجيب : عندي يا قاضي فلان وفلان وفلان فيلتفت القاضي الى اكبر الحاضرين ويقول له : ايش تقول يا شيخ في فلان ؟ فان كان مقبول الشهادة يقول : ( والله انه مقبول الشهادة , ماني خابر عليه الذرب الذي يذربه عن الشهادة ) وان كان مرفوض الشهادة يقول : ( والله انه غير مقبول ) وقد تقع الخصومات في اختيار الشاهد فمنهم من يرفضه ومنهم من يقبله ويطول الكلام بينهم الى حد يسأم منه الحاضرون , الى ان يقر رعلى شاهدين فيقفان ويقسمان القسم المتعارف عليه بينهم كقول بعضهم : ( والله العظيم والرب الكريم , وحياة العود والرب المعبود والكاذب ماله مولود الا حق الله من رقبتي مؤديه , وان هذا الرجل فعل كذا وكذا . وللشاهد عند بعض العربان طلب هدية لان العربان يرهبون القسم كما اسلفنا لذلك يقدمون للشاهد هدية كسيف او عباءة او نحو ذلك لأنه ساعد على اظهار الحق وتشجيعاً للغير ممن يكتمون الشهادة والذين ينفرون منها .
الحكم : وبعد ان تنتهي المحاكمة ينطق القاضي بامثال يبين فيها احكام القضاة من قبله في امور جرت من عهد قديم فيروي حكايات واقعية او خيالية يذكر فيها الحكم بمبهم الكلام وربما اتى بامثال حيوانات تنطبق على الامر الواقع , حتى يدرك الحاضرون الحكم المراد قبل ان ينطق به , واخيراً يفوه بالحكم القاطع بقوله : ( أنا من عندي , ومن عند القضاة الذين من قبلي ومن عند اجاويد الله مثلكم ان فلان هو المجرم وفلاناً هو البريء ويورد في ذلك الادلة والبراهين والاسناد كي لا يبقى في الأمر ريب , وهنا ينتهي الحكم فيقوم جمهور الحاضرين وينصرفون الى بيوتهم وهم يرددون الحكم المبرم .
العقوبات : والعرب يدعونها الحق وهو عقوبات لحق الشتائم وحق البيت وحق الوجه وحق الدخيل وحق القصير وحق العرض وغير ذلك سنذكرها لاحقاً في الجزء الثاني . بقلمي : اسماعيل بن عياد الترباني 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق