تعريف علم النسب - هنا الترابين

عاجل

مدونة تهتم بتراث وعادات وتقاليد قبيلة الترابين

الأحد، 16 نوفمبر 2014

تعريف علم النسب


تعريف علم النسب



النسب : لغة بمعني القرابة ، قاله ابن منظور فى اللسان وهو واحد الأنساب ، وعن ابن سيده : " قيل هو فى الآباء خاصة " (1). يقال للرجل اذا سئل عن نسبه : استنسب لنا أي انتسب لنا حتي نعرفك . وفى الإصطلاح : هو علم ، يعرف منه أنساب الناس وقواعد الانتساب ، والغرض منه الاحتراز عن الخطأ فى نسب شخص . " وقال بعض النحاة المتقدمين : النسبة إلحاق الفروع بالأصول بياء ، وينسب الرجل إلي إنسان آخر اشهر منه للتعريف ، فينسب إلي هاشم فيقال هاشمى وينسب الرجل أيضاً إلي بقعة من البقاع كما تقول فى النسبة إلي البصرة بصرى" (2) . وأشار القرآن إلي فائدته فى قوله تعالى« وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»(3) . وحث النبى صلي الله عليه وآله علي تعلمه بقوله : "اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم "(4) ، و(اعرفوا) فى الحديث فعل أمر ، سواء قلنا بدلالته علي الوجوب أو الاستحباب كما عليه الفقهاء . وقد كان فى كل ملة عبر التاريخ إلي عهد غير بعيد من يهتم بهذا العلم إلا أن التحضر أبعدهم عن ذلك حداً لاتري معه لهذا العلم عندهم أثراً ، فقد ذكر الكثير ممن تعرض لهذه المسألة القول عن شكيب أرسلان : " إن الأمة الصينية هى أشد الأمم قياماً علي حفظ الأنساب وأنهم يكتبون أسماء الآباء والجدود فى هياكلهم فيعرف الواحد أنساب أصوله إلي ألف سنة "(5).


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ لسان العرب ج1 : ص 755 .
2 ـ لباب الأنساب ج1 : ص 188 .
3 ـ سورة الحجرات : الآية 49 .
4 ـ المستدرك للحاكم : ج4 ص161، والسنن الكبري للبيهقى : ج10 ص157 ، مسند ابى داود : ص360 .
5 ـ مقدمة الأستاذ أحمد مهدوى لكتاب المجدى : ص 55 .

وقال ابن الطقطقى : " وأمّا أهل الكتاب من اليهود والنصاري ، فضبطوا أنسابهم بعض الضبط . بلغنى أنّ نصاري بغداد كان بأيديهم كتاب مشجر محتوٍ علي بيوت النصاري وبطونهم "(1). أما العرب فقد غلب عليهم هذا الفن ، وفاقوا الآخرين فيه قبل الإسلام وبعده حتي قيل : إن علم النسب علم العرب . قال البيهقى : " كانت العرب إذا فرغوا من مناسكهم حضروا سوق عكاظ وعرضوا أنسابهم علي الحاضرين ورأوا ذلك من تمام الحج ولذلك قال الله تعالي : « فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكراً » "(2). لقد ذكر لنا التأريخ أن فرسان العرب كانوا يستنكفون من ملاقاة غير الكفؤ أثناء القتال فلايشرعون المبارزة حين المواجهة حتي يسألوا الخصم عن حسبه ونسبه ، ففى معركة بدر خرج من المشركين شيبة وعتبة أبنا ربيعة بن الوليد والوليد بن عتبة فدعوا إلى البراز ، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار ، فنادى المشركون يا محمد أخرج إلينا الأكفاء من قومنا فخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب وعلى بن أبى طالب وعبيدة بن الحارث بن المطلب ، فمشوا إليه ، فقال عتبة تكلموا نعرفكم ، فقال حمزة أنا حمزة بن عبد المطلب ، فقال عتبة كفء كريم وأنا أسد الحلفاء . من هذان معك ؟ قال على بن أبى طالب وعبيدة بن الحارث ، قال كفآن كريمان . وهكذا فى النكاح فلا يتزاوجون من غير معرفة بالنسب والحسب وقد روى أن علياً قال لأخيه عقيل وكان نسّابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم : انظر إلي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لى غلاماً فارساً ، فقال له : تزوج أم البنين الكلابية فإنه ليس فى العرب أشجع من آبائها . ولوأضفنا إلى ذلك ما رتبه الشرع المبين من أحكام للرحم وصلتها ومايترتب عليها من أحكام وآثار دنيوية وأخروية ، لاتّضح سر المثابرة والحث علي الإحاطة بالأنساب .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الأصيلى : ص30 ـ 31 . 2 ـ لباب الأنساب : ج1 ص 169 .

فقد روى عن النبى صلي الله عليه وآله قوله : " تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ، فانّ صلة الرحم محبّة فى الأهل ، ومثراة فى المال ومنسأة فى الأثر "(1). ويعنى منسأة فى الأثر الزيادة فى العمر . وفى هذا كل التشويق لمتابعة هذا العلم بل فى هذه الرواية أمر شرعى بضرورة معرفة الأنساب فى حدود الحقوق الشرعية المترتبة علي النسب كما اسلفنا . وهكذا ما سنّه من اعتبار الأولويات فى الولاية علي النكاح حيث يقدم بعضهم علي بعض فى الولاية ، واعتبار كفاءة النسب فى الزوجين ، ففى مذهب الشافعى لايكافئ الهاشمية والمطلبية غيرها ، وكذلك الحاجة إليها فى باب الوقف إذا خص الواقف الوقف ببعض الطبقات دون بعض وفى الوصية ، ففى تكملة حاشية رد المحتار " قال فى الهندية : ولو أوصي لأهل بيته يدخل فيه من جمعه وإياهم أقصي أب فى الإسلام ، حتي أن الموصى لو كان علوياً أو عباسياً ، يدخل فيه كل من ينسب إلي على أو العباس من قبل الأب "(2). وفى الدية وأحكام العاقلة وغيرها . وأيضاً معرفة من له حق فى الخمس وتحرم عليه الصدقة عمن لا حق له فى الخمس ولا تحرم عليه الصدقة . فهذه كلها موضوعات شرعية متوقفة علي معرفة الأنساب وهى تنبئ عن أهمية هذا العلم . وقديما قيل : "من لم يعرف النسب لم يعرف الناس ومن لم يعرف الناس لم يعرف من الناس ؟"(3). قال ابن حزم بعد ذكره فوائد كثيرة لعلم النسب : " وضح بما ذكرنا بطلان من قال إن علم النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر وصح أنه بخلاف ما قال وانه علم ينفع وجهل يضر وقد أقدم قوم فنسبوا هذا القول إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهذا باطل ببرهانين : أحدهما : أنه لا يصح من جهة النقل أصلا وما كان هكذا فحرام علي كل ذى دين أن ينسبه إلي النبى صلي الله عليه وسلم خوف أن يتبوأ مقعده من النار إذ تقول عليه ما لم يقل . والثاني : أن البرهان قد قام بما ذكرناه آنفا علي أن علم النسب علم ينفع وجهل يضر فى الدنيا والآخرة ولا يحل لمسلم أن ينسب الباطل المتيقن إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم وهذا من أكبر الكبائر".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ سنن الترمذى : ج3 ص237 ، ح 2045 . مجمع الزوائد : ج8 ص152 وفيه منسأة للأجل ، وفى سر السلسلة العلوية ص12 باضافة : مرضاة للرب .
2 ـ تكملة حاشية رد المحتار : ج1 ص268 .
3 ـ النفحة العنبرية : ص23 .

معالم ضرورية لطالب علم النسب الكاتب: أ. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر

لكل عِلْم قواعده التي تضبطه، ومصطلحاته الخاصة به، إلاّ علم النسب مع كثرة الكتابة فيه مؤخَّرًا لم يكن له حظّ في كبح جماح المتعجّلين، ممن ينقل مِن هنا وهناك فيدفعه للمطبعة ولا ينظر إلاّ نتائج ما كتب. ولا تعجب إذا رأيت أنّ كثيرًا من أولئك الكتبة ليس لهم إلاّ ذلك التأليف في نسب قبيلة أو تاريخ بلدة. والتأليف له آدابه، وأعرافه من أهمها احترام عقلية القارئ وعدم ذِكْر أيّ دعوى بلا برهان من رواية صادقة أو نقل معتبر. ولذا فمن المحتم ذِكْر بعض المحاذير التي قد يقع فيها المشتغل بعِلْم الأنساب والتنبيهات التي لابدّ له من مراعاتها؛ فمن ذلك:

1- أنّ المشتغل في النسب قد يدّعي نسبًا بلا حُجّة أو ينفي نسب أحد بلا برهان، والدافع إلى ذلك إمّا أن يكون الهوى أو العجلة وعدم التثبت، والعجلة في مثل مباحث الأنساب زلّة أقدام. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه قال: قال : "كُفرٌ بامرئ ادعاءُ نسبٍ لا يعرف أو جحدُه وإن دق"(1). وفي رواية أحمد: :كفر تبرؤ من نسب وإن دق ادعاء إلى نسب لا يعرف"(2). وقال أبو بكر الصدّيق في خطبة له على الملأ: "كفر بالله ادعاء إلى نسب لا يعرف، وكفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق"(3).
2- الإيغال في الأنساب القديمة. وقد روى خليفة عن عمر بن الخطاب قال: لا أنتسب إلاّ إلى معد وما بعده لا أدري ما هو. وروى عن عكرمة قال: أضلت نزار نسبها من عدنان وأضلت اليمن نسبها من قحطان(4). وقد ورد عن ابن عباس قال: كان النبي إذا انتهى في النسب إلى معد ابن عدنان أمسك ثم قال: كذب النسّابون، قال تعالى: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (5). وورد عن ابن عباس قال: ولو شاء رسول الله أن يعلمه لعلمه، وقال: بين معد بن عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أبًا(6). وورد عنه أنه لَمّا وصل إلى عدنان قال: كذب النسّابون(7). وورد عن ابن مسعود أنه قرأ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ...(8)، فقال: كذب النسّابون. وذكر ابن كثير في ترجمة الإمام أحمد نسبه إلى إبراهيم ثم ذكر عن صالح بن الإمام أحمد أنه قال: رأى أبي هذا النسب في كتاب لي، فقال: وما تصنع بهذا؟ ولم ينكر النسب(9). فقد يكون أنكر ثبوت النسب بعد عدنان وقد يكون إنكاره لاشتغال ابنه بالنسب عمّا هو أهمّ منه.
وقد كان العرب يعيبون مَن يجهل نسبه إلى عدنان، ويدلّك على هذا قول لبيد:
فإنْ لم نَجِدْ مِن دون عدنان والدًا ودون معد فلترعك العواذلُ(10)
3- أنه قد يؤدّي إلى الإعجاب بالنسب أو بشرف الآباء، ولو تفكّر العبد لوجد أنّ الناس كلهم ولد آدم، الذي خلقه الله تعالى بيده وأسكنه جنّته وأسجد له ملائكته، وما أقلّ نفعه فيهم، وفيهم كل عيب وكل فاسق، والعامّة تقول في أمثال هذا المعجب بآبائه: كالخصي يُزهي بذِكْر أبيه، وأبولهب مَن هو في قربه وشرف نسبه، ولم ينفعه ذلك، وأبو إبراهيم وابن نوح لم ينفعهم شرف نسبهم وقربهم مِن أنبياء الله. والإعجاب بالنسب لا يدفع جوعًا ولا يستر عورة ولا ينفع في الآخرة، فهو بحق ضعف عقل وقلّة دين(11). وقد قال شيخ الإسلام: فإن كان الرجل مِن الطائفة الفاضلة فلا يكون حظه استشعار فضل نفسه، والنظر إلى ذلك، فإنه مخطئ في هذا؛ لأنّ فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص، فربّ حبشيّ أفضل عند الله مِن جمهور قريش(12). وقد روى ابن عمر قال قال : "فتنة الأحلاس هرب وحرب ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدم رجل من أهل بيتي يزعم أنه منِّي وليس منِّي وإنما مِن أوليائي المتّقين..."(13)، فشرف النسب لا يدلّ على شرف الشخص.
4- أنّ معرفة المرء لعلوّ نسبه قد يؤدّي به إلى ترك اكتساب الآداب والفضائل اتكالاً على حسبه؛ وما أحسن قول ابن الرومي:
وما الحسب الموروث لا درّ درّه
فلا تتّكل إلاّ على ما فعلْتَه
فليس يسودُ المرءُ إلاّ بنفسه
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة
وللمجد قـوم ساوروه بأنفس بمحتسب إلاّ بآخر مكتسب
ولا تحسبنّ المجد يورث بالنسب
وإن عدّ آباء كرامًا ذوي حسب
من المثمرات اعتدّه الناس في الحطب
كرام ولم يعبوا بأمّ ولا بأب(14)
والعاقل مَن يكون عصاميًّا لا مَن يكون عظاميًّا كما قال المتنبي:
لا بِقَوْمِي شَرُفْتُ بَلْ شَرُفُوا بِي وبجِدِّي سَمَوتُ لا بِجُدُودِي(15)
وما أصدق قول الشاعر:
حسبي فخارًا وشيمتي أدبي
إنّ الفتـى مَن يقـول ها أنا ذا ولست مِن هاشم ولا العرب
ليس الفتى مَن يقول كان أبي(16)
وقول الآخر:
كُنْ ابْنَ مَنْ شِئْتَ واكتسِبْ أدبَا
إنّ الفتى مَن يقـول ها أنا ذا يُغْنيكَ موروثه عن النسبِ
ليس الفتى مَن يقول كان أبي
وقد كان والد أبي الفتح عثمان بن جنِّي النحوي اللغوي المشهور عبدًا روميًّا، وقد عُيِّر بذلك فقال:
فإن أصبح بلا نسب
على أنِّي أؤول إلى
قياصرة إذا نطقوا
أولئـك دعا النبيّ لهـم فعلمي في الورى نسبي
قرومٍ سادة نجب
أرَم(17) الدهر ذو الخطب
كفى شرفًا دعاء نبي(18)
ومما ينسب إلى عليّ :
لكلّ شيء زينة في الورى
قد يَشْـرُفُ المرْءُ بآدابـه وزينة المرء تمام الأدبْ
فينا وإن كان وضيع النسبْ(19)
ويؤكد الشافعي هذا المعنى فيقول:
لا يُعْجِبنّكَ أثوابٌ على رَجُلٍ
فالعود لو لم تَفُحْ منه روائحُه دَعْ عنك أثوابَه وانظر إلى الأدب
لم يفرق الناس بين العود والحطب
والنسب مع الجهل لا يُجدي شيئًا كما قال الشاعر:
العلم ينهض بالخسيس إلى العُلا والجهل يقعد بالفتى المنسوب(20)
وما أحسن أن يجمع المرء بين شرف النسب وشرف العلم والأدب، ويكون كعبدالله بن معاوية حين قال:
لَسْنَا وَإِنْ أحسابنا كرمت
نبني كمـا كانت أوائلنــا يومًا على الأحساب نتَكل
تبني ونفعل مثل ما فعلوا(21)
ولَمّا قُرِئت هذه الأبيات على الملك عبد العزيز رحمه الله قال: فوق ما فعلوا فوق ما فعلوا. وقال الأصمعي: أنشدنا أبوعمرو بن العلاء لعامر بن الطفيل قال: وهو مِن جيِّد شعره:
إنِّ وإن كنتُ ابن سيّد عامر
فما سودتني عامر من وراثة
ولكنني أحمـي حماها وأتّقي وفارسها المشهور في كل موكب
أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
أذاها وأرمي مَن رماها بمنكب(22)
وما أجمل ما قاله الرصافي في قصيدة نحن والماضي حيث يقول:
وما يجدي افتخارك بالأوالي
فما بلـغ المقاصد غير ساع
وأسس في بنائـك كل مجدٍ
فشرُّ العاملين ذوو خمول
وخير النـاس ذو حسب قديم
إذا ما الجهـل خيّم في بلاد إذا لم تفتخر فخرًا جديدَا
يردد في غدٍ نظرًا سديدَا
طريف واتْرُك المجدَ التليدَا
إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا
أقام لنفسه حسبًا جديدَا
رأيتُ أسودَها مُسِخَتْ قُرودَا(23)
5- أنّ علم النسب قد يستخدم للسبّ وانتقاص الآخرين، ولذا نجد الفاروق عمر بن الخطاب يقول: إياكم وتعلّم الأنساب، والطعن فيها(24). وقد روى ابن عبدالبر بإسناده إلى يحيى بن طلحة قال: جئت لسعيد بن المسيّب فسلّمت عليه فردّ عليّ، فقلت: علّمني النسب، فقال: أنت تريد أن تسابَّ الناس، ثم قال لي: مَن أنت؟ فقلت: أنا يحيى بن طلحة، فضمّني إليه وقال: ائتِ محمدًا ابني فإنّ عنده ما عندي، إنما هي شعوب وقبائل وبطون وعمائر وأفخاذ وفصائل(25). فإذا كان المرء يعلم مِن نفسه نزوعًا إلى انتقاص الآخرين فليصلحه وليبتعد عن كل ما يزيد هذا الخلق الدنيء من القراءة في أخبار القبائل وأنسابها. وقد أحسن علماء الإسلام في طي مثالب القبائل ومن وجدوه ألّف في المثالب فإنّ كتابه يطوي ولا يروي لعظيم ضرره.
6- أنّ علم النسب قد يشغل عما هو أنفع منه، وهذا كثير مشاهد، فكم رأينا ممن يشار إليهم بالبنان من طلبة العلوم اتجهوا إلى علم الأنساب وتركوا ما هو أنفع للأمّة منه، ولذا نجد الإمام أحمد يصرف طلابه إلى العلم الأكثر نفعًا، فقد سأله رجل يقال له عامر فقال: يا أبا عبدالله بلغني أنك رجل من العرب فمن أيّ العرب أنت؟ قال لي: يا أبا النعمان نحن قوم مساكين، وما تصنع بهذا؟ فكان ربما جاءني أريده على أن يخبرني فيعيد عليّ مثل ذلك الكلام ولا يخبرني بشيء(26).
7- أنّ المشتغل بالأنساب قد يمدح ظالمًا معروفًا بمخالفة الشرع من أقاربه وقد يفخر بالانتساب إليه، وقد قال النبي : (انتسب رجلان على عهد موسى فقال أحدهما: أنا ابن فلان بن فلان حتى عدّ تسعة، فمن أنت لا أمّ لك؟ قال: أنا فلان بن فلان ابن الإسلام، فأوحى الله إلى موسى أن قل لهذين المنتسبين: أمّا أنت أيها المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم في النار، وأمّا أنت أيها المنتسب إلى اثنين في الجنّة فأنت ثالثهما في الجنة)(27).
8- من كمال العقل حسن اختيار ما نسب إلى السابقين الأخيار، ونقل ما جاء فيها من أخبار، قال ابن الجوزي رحمه الله: "وإنما أنقل عن القوم محاسن ما نقل ولا أنقل كل ما نقل إذ لكل شيء صناعته وصناعة العقل حسن الاختيار"(28)، فما كان فيها مما يحسب تركه فليترك.
9- لابد من معرفة رأي العلماء في المصنَّفات التي يرجع إليها الباحث؛ فعلى سبيل المثال نقل السخاوي عن النووي، رحمه الله، أنه أثنى على الاستيعاب لابن عبد البر لولا ما شانه من ذِكْر كثير مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، وحكايته عن الإخباريين والغالب عليهم الإكثار والتخليط"(29).
10- كما لابد من ترك التعجل في الاستنباطات كربط الأماكن بالقبائل التي كانت قد حلّت بها، لأن من المعلوم أنّ طبيعة العيش في البلاد العربية تحتم على القبائل التنقل لأسباب كثيرة منها: وقوع حروب فيما بينهم، أو وقوع قتل ممن ينتسب للقبيلة وتعجز القبيلة عن دفع دياتهم، ويصعب عليها أن تدفع القاتل لذوي القتيل. وقد يقع على القبيلة ظلم من الولاة والملوك فيرتحلون طلبًا للسلامة، كما أنّ قلة المطر وشدة القحط من أقوى الدوافع للارتحال، كما في قدوم بني حنيفة لليمامة. وقد تنتقل القبيلة عن موطنها بسبب كوارث طبيعية مثل سيل العرم الذي فرّق قبائل قحطانية كثيرة فالأوس والخزرج نزلوا المدينة، وطيء نزلت جبلي أجا وسلمى. وقد تضيق المنطقة بأهلها فتنتقل القبيلة أو بعضها إلى مكان أرحب.
11- من أهم مبادئ علم النسب معرفة طبقات النسب عند العرب. قال ابن حجر: الشعوب النسب البعيد والقبائل دون ذلك، هو قول مجاهد أخرجه الطبري عنه، وذكر أبو عبيدة مثال الشعب مضر وربيعة ومثال القبيلة من دون ذلك، وأنشد لعمرو بن أحمر:
من شعب همدان أو سعد العشيرة أو خولان أو مذحج هاجوا له طربا(20)
وقال ابن الكلبي: الشعب أكبر من القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم العشيرة ثم الفصيلة. وقال غيره: الشعوب العجم والقبائل العرب، وإنما قيل للقبيلة قبيلة لتقابلها، وتناظرها، وأنّ بعضها يكافئ بعضًا. وقيل للشعب شعب لأنه انشعب منه أكثر مما انشعب من القبيلة، وقيل لها عمائر، من الاعتمار والاجتماع، وقيل لها بطون، لأنها دون القبائل، وقيل لها أفخاذ، لأنها دون البطون، ثم العشيرة، وهي رهط الرجل، ثم الفصيلة، وهي أهل بيت الرجل خاصة. قال تعالى: (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ). وقال تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)".
12- التثبت في ما يرد من قصص وأخبار فيما هو مخالف للشرع أمر لازم وواجب على المؤرِّخ والمتحدِّث في النسب أن يحرص عليه، وخصوصًا إذا كان الحديث عمّن عرف بالخير، وتطبيق المنهج الحديثي في سند الرواية؛ امتثالاً لقوله سبحانه: " يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ"(31).
13- العصمة للأنبياء، وكلنا خطّاء، وقد قال سعيد بن المسيب، رحمه الله: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل -يعني غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- إلاّ وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله"(32). وقد صحّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : "لا تذكروا هلكاكم إلاّ بخير"(33).
14- ينبغي لمن يتصدى لتاريخ الأعلام أن يتجنب الألفاظ الجارحة، قال المزني: سمعني الشافعي يومًا وأنا أقول: فلان كذّاب، فقال لي: أحسنها، لا تقل كذّاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء. ونحوه عن البخاري وأيوب رحم الله الجميع(34). وذلك حتى لا يتعوّد لسانه على هذه الألفاظ.
15- لا يعرف تاريخ الدول الحق في وقتها، وقد ذكر المؤرخ الذهبي رحمه الله إعراض أهل الجرح والتعديل عن الكلام في الخلفاء وآبائهم وأهليهم خوفًا منهم. قال: وما زال هذا في كل دولة قائمة، يصف المؤرخ محاسنها ويغضي عن مساوئها"(35).
16- من كمال الأدب مع الأعلام المسلمين، من أهل الفضل والخير أن نترحم عليهم عند ذكرهم، وقد قال رزق الله التميمي الحنبلي رحمه الله (ت488هـ): يقبّح بكم أن تستفيدوا منّا ثم تذكرونا ولا تترحموا علينا"(36).
17- من المعلوم أنّ النوازع النفسية تؤثر على الإنسان، ومن الأهمية بمكان أن يعلم طالب النسب أنّ كل متكلم في النسب سواء أكان في كتاب أم خطاب فإنّ القليل النادر من يتجرد من الأهواء الشخصية، ويمكن ملاحظة ذلك بأمور:
- تجده إذا اختار من الأخبار فإنه يبرز ما يروق له ولمن يواليه، ويحذف أو يحّرف ما لا يرضاه، وقد يورده بصورة مشوّهة، فليكن طالب النسب على حذر من ذلك، بأن يعدّد مصادر التلقّي، ويقارن بين الكتب، ويعرف من عرف عن التعصب أو التحريف من أهل التصنيف.
- كما تجده يذكر مثالب بعض القبائل والعوائل لشيء في نفسه، ولكننا ولله الحمد نجد أنّ المسلمين الشرفاء لم يحفلوا بتلك المصنفات حتى فقدت ولم يبق منها إلاّ أسماؤها، وبقي عار تصنيفها على مصنفيها كعلان الشعوبي وغيره. وما أحسن أن يدعوا بدعاء الصالحين: وَالَّذِينَ جَاءُو مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ الحشر، الآية 10.
- ومنها أن يبرز المواقف السيئة للأشخاص المنتسبين إلى العوائل؛ مما يشكّل حساسية وحرجًا لبقية عائلته أو قومه، مع أنّ الله تعالى قال: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى إلاّ أنّ الناس يعيّرون القبيلة بذنب الفرد، ولذا فإنّ تسمية من حصل له الموقف دون نسبته أفضل إلاّ إذا اشتهر وعرف وكثر ذِكْره.
- ومنها أن يذكر هجاء الشعراء للقبائل القديمة، وكلنا يعرف كيف فعل بيت جرير في قبيلة بني نمير، ولكننا لم نتساءل عن مسؤولية كلمته أمام الله تعالى، عندما ظلم قبيلة كاملة بسبب مهاجاة بينه وبين شاعر، وقد ذهب الجميع وبقي الهجاء إلى يوم الدين، فما أعظم مسؤولية الأديب. وليعلم أنّ الناقل مسؤول عن نقله، لقوله تعالى: لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا .
- ومن كمال عقل العجاج أنه قيل: إنك لا تحسن الهجاء، فقال: إنّ لنا أحلامًا تمنعنا من أن نظلم، وأحسابًا تمنعنا من أن نُظلم. وهل رأيت بانيًا لا يحسن أن يهدم(37).
- ولو طبّق حكام الدول الإسلامية السابقون حكم الله في الهجّائين لما رأينا القصائد الكثيرة المخجلة في الهجاء المقذع غير المبرر، ولذا نجد أنه لما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر سجنه عمر ، فاستعطفه بأبيات وشفع له ابن عوف وعمرو بن العاص رضي الله عنهما فأخرجه عمر وهدده بقطع لسانه إن عاد يهجو أحدًا(38).
- ومن المعلوم أنّ من علوم الأخبار ما هو محرّم البحث فيها والنظر والكتابة، وذلك في أربعة مجالات ذكرها السخاوي رحمه الله وهي(39):
1- ذِكْر الخرافات المنسوبة إلى الأنبياء.
2- البحث فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنّ ذلك مفضٍ إلى الوقوع فيهم.
3- البحث فيما جرى من الأكابر من شرب للخمور واقتراف للمحرّمات وذلك لأنها من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا والكذب فيها كثير.
4- ذِكْر مساوئ السابقين ومثالبهم لحديث "اذكروا محاسن موتاكم" لا تسبّوا الأموات فتؤذوا الأحياء". والمتحدِّث في الأنساب يحتاج إلى أن يجعل هذا الحديث نصب عينيه دائمًا.

--------------------------------------------------------------------------------------------------

الهوامش:


(1) رواه ابن ماجه 2/918 برقم (2815) وحسّنه الألباني في صحيح الجامع (4486).
(2) رواه أحمد في مسنده (7000).
(3) رواه الدارمي برقم (2859) ورقم (2861).
(4) طبقات خليفة 2.
(5) سورة الفرقان، الآية 38، والحديث ذكره الكلبي في الجمهرة ص17 ولا يصحّ.
(6) الجمهرة لابن الكلبي 17.
(7) الدر المنثور 5/72.
(8) سورة إبراهيم، الآية 9.
(9) البداية والنهاية 14/380. (10) البدء والتاريخ 4/107.
(11) بتصرف من الأخلاق والسِّيَر لابن حزم 79-80. وقد أبدع الرافعي في وحي القلم 1/85 في معالجة ظاهرة التفاخر والتبجح بعلوّ النسب في قصة رائعة وحريّ بمن ابتلي بهذا المرض أن يتمعّن فيها.
(12) اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، ص164.
(13) رواه أبو داود 4242 وأحمد 6168، وفي عون المعبود 11/208، قال الأردبيلي: فيه إعجاز وعلم للنبوة وفيه أنّ الاعتبار كل الاعتبار للمتّقي وإن بعد عن الرسول في النسب وأن لا اعتبار للفاسق والفتّان عند رسول الله وإن قرب منه في النسب انتهى.
(14) ديوان ابن الرومي 1/150-151؛ والبداية والنهاية 14/667-668.
(15) ديوانه، 1/322.
(16) البداية والنهاية 14/741-742 ولم ينسبه.
(17) أرمّ بتشديد الميم: قال في القاموس في مادة (رمم): أسكت.
(18) سِيَر أعلام النبلاء 17/20 وفي معجم الأدباء 12/83: أولاك بدلاً من أولائك، وانظر المبهج لابن جنِّي 5.
(19) معجم الأبيات الشهيرة 21.
(20) المستطرف 55.
(21) ديوان عبدالله بن معاوية 63، ونسبت إلى التوكل الليثي بلفظ قريب منه، واستشهد بها زيد بن علي بن الحسين كما في الآداب الشرعية 1/234.
(22) ديوان عامر بن الطفيل 28. (23) ديوان الرصافي 35-36.
(24) النهاية في غريب الأثر 3/52؛ الفائق 2/315؛ وانظر: لسان العرب-رسم صمد.
(25) الإنباه 39-400. (26) الآداب الشرعية 2/30.
(27) رواه أحمد والنسائي عن أبي بن كعب كما في صحيح الجامع (1492) والصحيحة (1270) وصحّحه الألباني.
(28) صفة الصفوة 1/38. (29) الإعلان بالتوبيخ 64.
(30) فتح الباري 6/528 ح3299. (31) سورة الحجرات، الآية 6.
(32) الإعلان بالتوبيخ 70.
(33) رواه النسائي وصحّحه الألباني في صحيح الجامع 7271.
(34) الإعلان بالتوبيخ 69.
(35) الإعلان بالتوبيخ 66.
(36) صفحات من صبر العلماء 9.
(37) عيون الأخبار 2/185.
(38) الفروع 6/111.
(39) الإعلان بالتوبيخ 48.
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق